إحياء المرأة العربية
بقلم المستشار الدكتور
السيد أبو عيطة
متابعة الصحفية / والإعلامية د .لطيفة القاضى
(1) إشـكـاليـة المجتمع الذكـورى العــربى(1) :
هذا المرض الفتاك الذى تظهر أعراضه فى أطراف الجسد العربى ، على صعيد الدولة والمجتمع والأسرة والفرد ، وتتمثل هذه الأعراض على الصعيد المجتمعى فى التركيب الإجتماعى الذكورى والعلاقات المهيمنة فيه ، فى تغلب الإنتماءات الجزئية والمحلية كالطائفية والقبلية فى الممارسات الإجتماعية فى هيمنة السلطة الأبوية فى العلاقات الذاتية وتضاربها مع الأهداف القومية والمصالح العامة . وتتضح هذه الأعراض المرضية أكثر وأكثر فى إطار الأسرة وعلاقة الأنثى بالرجل وانتقال السلطة الذكرية من خلال التناسل الذكورى من الأب إلى الإبن الأكبر ثم الأصغر ومن قبل ذلك من الجد إلى الأب ، هذه السلطة الذكورية هى الأكسوجين الذى يتنفسه المجتمع الذكورى ومبرر بقاءه على قيد الوجود ، والأنثى هى وقود هذا المجتمع الهرمى الذكورى .
ويعتبر تفكير ونضج المرأة ودفاعها عن حقوقها وحرياتها بمثابة القنبلة الموقوتة التى تقلق المجتمع التقليدى الذى اعتاد على سلب المرأة حقوقها وحرياتها رغم أنها متساوية من حيث الأصل والمبدأ مع الرجل أمام الله فى كل شىء بما فى ذلك الحقوق والواجبات العامة ، فكلما كانت الأنثى قادرة على المقاومة والتحدى والرفض كان ذلك بمثابة زعزعة لأسس نظام اعتاد على السمع والطاعة من الرعية بصفة عامة والمرأة بصفة خاصة ، فكان ذلك التحدى بداية إنهيار لأسس هذا النظام الضارب جذوره فى الأعماق .
فالمنطلق الأساسى إذن هو إحياء المرأة كشرط لإحياء المجتمع ، ودون هذا الإحياء الأنثوى فلن تُجدى أى إصلاحات أو إنقلابات أو ثورات لأنها لن تفرز إلا مزيد من الإستبداد السياسى والإجتماعى والدينى (2) من هنا كان لابد من القيام بعملية نقد ذاتى على أوسع نطاق لا فى ضوء المفاهيم التراثية فحسب التى تمنح المرأة حقوقها ، بل أيضاً فى ضوء الواقع الوجودى الإجتماعى الذى يميز الذكر على الأنثى منذ اللحظة الأولى للوجود الإنسانى .
فالنظام المستبد (3) والمجتمع المستبد يرتكز على الأنثى التى تمثل فى ذات التوقيت نقطة ضعفه ووسيلة استمراره ، وعندما تصبح الأنثى قادرة على الرفض والمقاومة تهتز أركان ذلك النظام اللاهوتى وتتوارى شرعيته الزائفة ، فشرط إحياء المجتمع هو إحياء المرأة ، وبما أن العلاقة بين الذكر والأنثى علاقة جنسية فى ظل المجتمع التقليدى المستبد ، فينبغى تحويل هذه العلاقة إلى علاقة اجتماعية جديدة ، تقوم على أساس المصلحة العامة والعقلانية والحكمة والشرعية ، فإذا أردت إحياء المجتمع مجدداً فعليك بإحياء المرأة من جديد ، وإذا ما أردت إحياء المرأة مجدداً فعليك بالقضاء على المجتمع الذكورى المستبد والإنتقال إلى مجتمع عادل متساو ديمقراطى لأن الله لم يفرق بحسب الأصل العام بين آدم وحواء ، ونؤكد هنا أن الحركة النسائية هى الوحيدة القادرة على إطلاق شرارة التغيير التى تنسف المجتمع الإستبدادى الذكورى .
(2) آليات إحياء المرأة : الحرية والنسوية والمواطنة :
تتعدد آليات إحياء المرأة من جديد ، فيمكن عن طريق التربية والتعليم والدين والأخلاق نسمو بها ، غير أن وسائل إحياء المرأة فى العلم الحديث دارت حول ثلاثة آليات ، هى منح المرأة الحرية المسئولة ، وإعتناق الفكر النسوى الإجتماعى ، وتوطين المرأة ومساواتها بالرجل ، فما هى الحرية وماهى النسوية وما هى المواطنة ؟
- الحرية (4) : إن إشكالية الحرية تعتبر - بلا شبهة - من أقدم وأعقد الإشكاليات الفلسفية على حد سواء ، وفضلاً عن ذلك فإن مسألة الحرية اليوم بل وغداً من أخطر المسائل التى يعرض لها العلماء كدراسة ، إذ قد أدى تطور العلوم الى معاودة النظر فى مبدأ الحتمية مما أدى الى قيام نزاعات احتمالية فى إطار ونطاقات العلوم نفسها تعبر عن قيام حرية ميتافيزيقية عامة ، فإذا ما أنصفنا آراء بعض الباحثين مثل سارتر حيث يوحدون بين الحرية والوجود الإنسانى أمكننا تصور حجم وكيف هذه الإشكالية العالمية .
إن الوجود الإنسانى حقيقة ذو طابع خاص يجعل كل منا موجوداً وحراً قد قُذف به وحيداً فى هذا العالم ، فمشكلة الحرية إذاً هى مشكلة الوجود البشرى بأسره وليست اشكالية المرأة وحدها ، فالحرية هى مطلب إنسانى وليست مطلب أنثوى فقط ، فالكشف عنها سوف يكشف لنا عن معانى كثيرة مبهمة مثل : القيم والفعل والقلق والوجود نفسه .
غير أننا نحيا فى عالم ملىء بالعوائق ، ولابد للحرية من أن تصطدم بهذه المعوقات حتى تتحول إلى قيمة ، وقد يتصور البعض أن الحرية هى منحة قد جادت بها الطبيعة ولكنها فى الحقيقة كسب تم إحرازه ، وحينما يضعف بعض البشر أو يسقطوا فى الخطيئة يبرروا سلوكهم المشين هذا بعوامل خارجية أو لا إرادية مثل مشكلة البيئة والوراثة والظروف الإقتصادية والقضاء والقدر الإلهى . وكل ذلك من ضعف الإنسان واخطاؤه ، ﴿فلا تلومونى ولكن لوموا أنفسكم﴾ ، ﴿وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى﴾ .
فالحرية من الناحية الفلسفية (5) هى اختيار الفعل عن تدبر وحكمة مع القدرة على عدم إختياره أو مكنة اختيار غيره ، والحرية يمكن أن تكون حرية تصميمية ويمكن أن تكون حرية تنفيذية . فالحرية التصميمية هى ملكة الإختيار أو القدرة على الإختيار بمعنى إنعدام الإكراه ، أما حرية التنفيذ هى القدرة على الأداء أوعدم الأداء بمعنى القدرة على الحركة أو الفعل ، والقدرة أيضاً على عدم الفعل أو الإمتناع دون الوقوع تحت أى ضغوط خارجية مؤثرة .
(3) الحرية والحركات النسائية فى الشرق الأوسـط :
لقد انطلقت الحركة النسائية فى الشرق الأوسط من مصر وتحديداً من ميدان التحرير الذى كان يسمى بميدان الجلاء ثم سُمى بعد ذلك بميدان التحرير بعدما قامت نساء من أمثال هدى شعراوى ونبوية موسى وصفية زغلول وأمينة السعيد وغيرهن بخلع نقابهن فى الميدان ووضعه تحت أقدامهن ، معلنين الحرية للنساء وانتهاء عصر الحريم .
- والنسوية : هى إدراك القيود المفروضة على المرأة ومحاولات نزع هذه القيود وتطوير نظام نوعى أكثر عدلاً وإنصافاً ترتبط به أدوار جديدة للنساء وعلاقات جديدة بين النساء والرجال .
ويلاحظ ان الدين الإسلامى تحديداً يظل محتفظاً داخل التوجه البحثى السلفى التقليدى بقبضته القوية كنموذج تفسيرى شامل وبوجه خاص فى تحليلات النساء والنوع وذلك رغم نمو نقد قوى مضاد للإستشراق منذ صدور كتاب إدوارد سعيد " الإستشراق " وتسجيل مارنيا لازرج ان الموضوع ليس نبذ دور الإسلام فى حياة النساء والرجال ولا تفخيمه ، والأهم هو دراسة الأوضاع التاريخية التى من خلالها يكون للدين شأن ذى بال فى إنتاج الفوارق والمساواة النوعية وإعادة إنتاج كل منهما .
ولقد كان تطوير النساء نحو نموذج إحياء المرأة لما قمن به من حركات نسائية جزءً من عملية تاريخية شاملة كانت فيها التغيرات فى وضع الأنثى وإعادة هيكلة العلاقات الأنثوية الذكورية النوعية من المسائل الملتهبة فى ثقافة وفكر الشرق الأوسط عامة والمجتمع العربى بصفة خاصة حول مسائل ومفاهيم الثقافة والهوية والشخصية والوطنية ، ولقد كانت تلك التحولات والسجالات العنيفة التى آثارها متجذرة فى التغيير السياسى والإقتصادى والإجتماعى والثقافى أياً كان المدى الذى بلغه ابراز الدين والتقاليد والثقافة والأعراف السائدة آنذاك .
(4) النسوية والمواطنة :
وحتى وقت قريب لم تكن النسوية بأمر ذى بال لدى منظرى المواطنة ، كما لم تكن هذه الأخيرة ذات أهمية لدى منظرى النسوية ، لقد عكفت الموجة الثانية من النسوية والتى ظهرت فى الستينيات على إشكالية وضعيات النساء الرسمية والمادية ، غير أن هذه الموجة خلال تناولها للإضطهاد الواقع على النساء وحاجتهن للتحرر والمساواة ، وفى أثناء تأكيدها الحاجة الى تغيير بنية المجتمع وتوجهاته لم تعبر عن هذه الأفكار صراحة من خلال أطروحات المواطنة .
أيضاً لم تستخدم المنظرات النسوية بصورة صريحة مصطلح المواطنة فى العقدين التاليين لعقد الستينات ، لقد بدأت بعض الخبيرات من شاكلة كارولين رامازا 1989 واليزابيث سبيلمان 1988 ودينيس ريلى 1988 فى شن الهجوم على مقولة وجود نظرية عالمية لإضطهاد جميع النساء فى العالم أو حتى كل نساء الشرق الأوسط ، غير أن الحركة النسائية فى ذلك الحين لم تستخدم آلية المواطنة فى سبيل إحياء الأنثى وانما استخدمت آليات أخرى مثل التنمية والإستقلال والوطنية السياسية والديمقراطية ، غير أن هناك من الناشطات الأنثويات من استخدمن آلية المواطنة بعد ذلك للتحرر ومواجهة الإضطهاد .
لقد أصبحت المواطنة كلمة رنانة فى الوسط الثقافى والإجتماعى خلال العقد الأخير من القرن المنصرم ، كما تم تمرير عدة قضايا هامة من خلالها مثل الرفاهية والأمن والسلام الإجتماعى ، غير أن منظرى المواطنة لم يعطوا القضايا النسوية جليل جهودهم ، فلم تناقش قضايا الأنثى من خلال المواطنة وانما من خلال النوع فقط فى تلك الفترة ، غير أنه مع بداية العام 1989 وهو بداية تحول عالمى أيضاً بدأ الإهتمام والربط بين النسوية والمواطنة تفكيراً أو تنظيراً .
غير أن هناك العديد من القضايا المرتبطة والمشتركة بين النسوية والمواطنة مثل الحرية والمساواة السياسية والعدالة والديمقراطية والتنمية والحقوق والواجبات ، غير أنه رغم ذلك فلقد ظلت الروابط بين النسوية والمواطنة قد ظلت ضعيفة نسبياً ، إذ كان من شأن الحوار بين الطرفين أن تثرى الطرفين معاً ، كما كان من شأن الطرفين أن يمنحهما الكثير مثل طرائق جديدة لمقاربة الموضوعات أفكاراً جديدة لإستكشافها ضمن إطار نظرى بديل وأيضاً القدرة على النقد الذاتى .
فالمواطنة هى العلاقة بين الدولة والفرد من الناحية السياسية والإجتماعية والإقتصادية والقانونية أيضاً ، ولها أربعة صور ، الصورة الجمعانية ، الصورة المدنية ، والليبرالية الجديدة ، والليبرالية الإجتماعية ، فالصورة الجمعانية تركز على المشاركة والخدمات الإجتماعية بهدف المصلحة العامة ، أما الصورة السياسية المدنية فتظهر المواطنة بوصفها المشاركة السياسية وهى تعود من الناحية التاريخية إلى فكرة مساهمة المواطنين فى صنع القرار وإضفاء القيمة على كل من الحياة العامة والجدل العام ، كما يشير الى فكرة مفادها أننا يجب أن نفهم أنفسنا باعتبارنا كائنات سياسية ، أما الليبرالية الجديدة فالمواطن فيها له وضعيته القانونية المركزية لردح من الزمن ، وقامت ببناء قيم مثل العدالة والإنصاف و بقيت النساء مواطنات من الدرجة الثانية أو جنساً ثانياً ، وفى هذه الجزئية سأقدم دليلاً على ذلك عن طريق اتخاذ الدول الأعضاء فى الإتحاد الأوروبى كنماذج للديمقراطيات الليبرالية عموماً ، تبرهن إحصاءات عام 1994 أن تمثيل النساء فى المستويات الأعلى لإتخاذ القرار بالدول الأعضاء فى الإتحاد الأوروبى ، قد ظل دون المستوى ففى نماذج مختارة من الإحصاءات حول الجماعة الصانعة للقرار السياسى ، وكذلك فى الحكومات على مستوى المحليات وعلى المستوى القومى ، بلغت نسبة النساء 16٪ ، وفى الإتحاد الأوروبى مثلت المرأة نسبة 26٪ ، وفى كل مائة إمرأة عاملة فى المفوضية الأوروبية هناك ستون يعملن سكرتيرات ، وتسع مديرات فقط فى حين كان نسبة 46٪ من الموظفين الرجال يعملون كمديرين .
وفى الإدارة العامة فى اثنتى عشرة دولة هى الأعضاء فى بداية التسعينيات نجد 23٪ من النساء فى أسفل سلم الإدارة ، و10٪ فى المستوى الإدارى العادى ، فى حين نجد 6٪ من المناصب العليا . فإذا جمعنا القطاعين العام والخاص سترتفع النسبة الى حد ما ؛ فحوالى 30٪ من أعضاء اللجان التشريعية وكبار المسئولين والمديرين كانوا من النساء وذلك عام 1993 . وفى النقابات العمالية سنجد فقط 71٪ من العاملين باللجان التنفيذية نساءً وذلك عام 1993 . وأكثر من ذلك ؛ ففى غرب أوروبا عام 1994 احتلت النساء فقط نسبة 12٪ من مواقع المديرين فى مجال الإعلام ، ونسبة 18٪ فى مجال الصحافة.
ومن جهة أخرى كانت الوضعيات الإجتماعية للنساء فى الإتحاد الأوروبى متدنية جداً ولنأخذ عام 1992 كانت النساء اللاتى تضمهن قوة العمل ويعملن يوماً كاملاً تقل أجورهن بمقدار 1,5 الى 2,6 عن الرجال ، وسترتفع النسبة أكثر إذا وضعنا فى الإعتبار العاملات اللواتى يعملن بعض الوقت Part-Time كما تبلغ نسبة النساء العاطلات فى الشريحة العمرية من 20 الى 59 سنة حوالى 37٪ ، و56٪ يعملن ، فى حين تبلغ نسبة العاطلين من الرجال فى الشريحة نفسها 12٪ .
وطبقاً لمنظور الليبرالية الإجتماعية ، يجب أن تكون المواطنة شاملة وقائمة على المساواة ؛ أى تشمل كل البالغين ضمن نطاق الدولة ، كما يجب أن تضمن المساواة فى الحقوق المدنية والسياسية والإجتماعية كمقابل للمساواة فى الواجبات . ويحصل الأفراد بمقتضاها على أكبر قدر ممكن من التحرر ليمارسوا حقوقهم ، وليطوروا شخصياتهم . وبناءً على هذا يسعى الأفراد لوضع تدخل الدولة فى حياتهم أو تدخل الأفراد من المواطنين فى حدوده الدنيا . ورغم ذلك ، فإن حقوق المواطنة الإجتماعية – مثل الحق فى معونة البطالة ، والحق فى المعاش بعد التقاعد – قد جعلت وجود الدولة أكبر مما كانت ترغب الليبراليات الإجتماعية . ربما سعت تلك الليبراليات لإبقاء تدخل الدولة فى حدوده الدنيا عن طريق عدم المطالبة بأى شىء فى مقابل توفير الرفاه الإجتماعى ، ولكن ما إن يقر المواطنون بالشروط التى تؤهلهم لشغل الوظائف ، يصبح من حق الموظفين المدنيين أن يمارسوا الرقابة للتأكد مما إذا كان المواطنون قد استوفوا هذا الإلتزام أم لا .
وللمواطنة الليبرالية الإجتماعية معيار أخلاقى محدود ، وهو ما يمكن أن نجده – غالباً – فى قوانين الدولة ، هذا المعيار هو ما تتمتع به العدالة وعدم التحيز من سمة أخلاقية . إنها فكرة وجوب أن يتم التعامل مع كل شخص بطريقة متساوية فى النطاق العام ، نطاق العدل . أما فى المساحة الخاصة – أى فضاء العائلة – فبإمكاننا ممارسة أفكارنا الخاصة عن كيف تكون الحياة الجيدة ، أو أفكارنا الملحة حول معنى الأخلاقية ، وعلى النقيض فى النظام العام ؛ حيث من شأن القواعد الأساسية أن تكون متسامحاً كأن لا يؤذى بعضنا بعضاً ، وألا يفرض بعضنا على بعض مطالب مرهقة وأن يقل بقدر الإمكان تدخل بعضنا فى حياة البعض .
وطالما وجهت النسويات الإنتقاد للنظرية الليبرالية الإجتماعية. ولربما قام هذا الإنتقاد على أرضيات قوية ، فبينما سادت الليبرالية الإجتماعية فى العالم الغربى العاملين منهم 81٪ وفى القوة العاملة تعمل 29٪ من النساء بعض الوقت ، فى حين يعمل 4٪ فقط من الرجال بعض الوقت .
و أخيراً ، تظهر الدراسات القومية المعاصرة فى ست دول متقدمة أن نسبة 17٪ الى 28٪ من النساء البالغات قد اغتصبن جسدياً على يد زملائهن المقربين فى العمل ، ونسبة 72٪ الى 34٪ من النساء قد سجلن اعتداءات جنسية وقعت عليهن أثناء فترة الطفولة أو المراهقة .
وترتبط هذه الحقائق عن وضعية النساء كمواطنات من الدرجة الثانية بما توصلت اليه النسويات من أن المفهوم الليبرالى الإجتماعى عن المواطنة هو مفهوم ناقص ، لكن هل الإنتقادات النسوية لليبرالية الإجتماعية مؤهلة لأن يستنير بها المرء فى اكتشاف بدايات مفهوم بديل أكثر ايجابية للمواطنة ؟ أم أن هذه الإنتقادات كانت غير كاشفة منذ البداية حتى يمكننا القول بأنه لا يوجد عيب فى مفهوم الليبرالية الإجتماعية للمواطنة ؟ وهل هناك احتمال لوجود عيوب أخرى فى مفهوم الليبرالية الإجتماعية لم تقم النسويات بتعريفه ؟ وهل يجب أن نطور مفهوماً بديلاً فى اتجاه مغاير للإتجاه الذى تطرحه الإنتقادات النسوية الحالية ؟
(5) إحياء الأنثى : الآليات الجديدة :
غير إننا نتصور أن توصيف المشكلات الثقافية للمرأة العربية اليوم وغداً يتطلب مجموعة من الملاحظات الإستهلالية التى لها أهمية خاصة فى هذا السياق أولها أنه لا يمكن فصل ثقافة المرأة عن ثقافة الرجل ، ثانيها أنه لا يمكن فصل الأوضاع الثقافية فى أى قطر عربى عن بقية الأقطار ، فالعلاقة الثقافية بين الأقطار العربية علاقة متبادلة ، وثالثها أنه لم يعد ممكناً الحديث عن ثقافة عربية للمرأة بمعزل عن ثقافة العالم المعاصر .
ومن هذا المنطلق التحليلى يمكن الحديث عن أهم المشكلات الثقافية التى تعانيها المرأة العربية المعاصرة أو فى الشرق الأوسط بصفة عامة ، وأولى هذه المشكلات هى الميراث الثقافى التقليدى الجامد الذى لا يزال مهيمناً بنزعاته المتحجرة وهو ميراث لا يزال ينظر إلى المرأة على انها ناقصة عقل ودين ، مستنداً فى ذلك الى مرويات نقلية غير صحيحة أحياناً وتأويلات بشرية مغلوطة لنصوص دينية لها معان وتأويلات أخرى مغايرة والى نظرة متعصبة تبرر كل شىء على أساس من الماضى .
ويضم هذا الميراث وتلك التركة من توافر من أحكام وتصورات وعادات وممارسات لا تكف عن تحقير النساء وسوء الظن بهن والتقليل من شأنهن . غير إننى لا أريد الإطالة فى مأثورات هذه التركة فهى أكثر من حجم أضعاف هذا المقال والتى شاعت فى عصور الظلام والضعف والهوان ، حيث مازالت فاعلة فى اللاوعى التقليدى الجمعى لمدعى السلفية وجماعات التخلف والإرهاب والتطرف.
هذا الميراث الثقافى الذى لا علاقة له بالوحى والنص الصحيح والتأويل الصحيح للنصوص المقدسة والذى يحط من شأن المرأة فى مخالفة جسيمة للنص المقدس ، لا تزال آثاره موجودة الى اليوم وسوف تمتد إلى عدة أجيال قادمة ، بفضل الجماعات والتيارات المعتنقة للفكر التقليدى والاتباع وليس الإبداع وأتباع التقليد وليس إعمال العقل وهى الجماعات التى لا تزال تستريب حضور المرأة وترفض الإعتراف بحقوق المرأة التى أقرها الإسلام الصحيح والفهم الصحيح للنصوص المقدسة .
وثانى هذه المشكلات هو ما تعيد الثقافة السائدة انتاجه من موروث إجتماعى ذكورى تسلطى وهو موروث لا يزال يفرض التمايز بين الذكر والأنثى فى الوضع الإجتماعى والسياسى والإقتصادى .
ومن البديهى والحال كذلك أن يستنكر الوعى الذكورى العام ولو على المستوى اللاشعورى ، ترقى المرأة وبلوغها قمة الهرم الإجتماعى والسياسى والإقتصادى ولن يسمح بفتح أبواب المناصب العليا أمام الأنثى ، هذا فضلاً على بقاء وتكريس القيود المفروضة إجتماعياً على إبداعات المرأة ونتاجها الفكرى فى معظم البلدان العربية ، وهى قيود نابعة من عادات ومفاهيم وقيم مترسخة ، ينظر فيها إلى ممارسة المرأة للإبداع الأدبى أو الفكرى باعتباره أمراً معيباً ، لذلك فإن نسبة المبدعات من النساء أو المشتغلات بالفكر والبحث العلمى والأدب والثقافة أقل بكثير من نسبة الرجال ، كما أن نسبة ما هو متاح ومباح للرجال من فعله فى هذا المجال ؛ أكبر بكثير من ما هو متاح ومباح للأنثى ، لذلك فإن المسكوت عنه فى الخطاب الأنثوى فى المجتمعات الشرقية أكبر بكثير من المسكوت عنه فى الخطاب الذكورى.
بيد أن هذا الموروث الذى تعيد الثقافة التقليدية إنتاجه مراراً وتكراراً وعلى مستويات متعددة وبأشكال مختلفة وإن كان الجوهر والمنهج متحد هو المسئول الأول عن تقلص الحضور السياسى والإجتماعى والإقتصادى للأنثى ، فالوعى الإجتماعى العام لا يزال وسيظل لعدة قرون قادمة متأثراً بموروثاته السلبية على مستوى اللاشعور الجمعى ، ولا يزال رافضاً تقبل تمثيل المرأة أو رئاستها للذكر فى عدة ميادين وعدة مستويات .
ويمكن أن نضيف أيضاً الى المشكلات الثقافية للمرأة العربية غياب الحرية السياسية بمعنى أو أكثر فى الأقطار العربية ، الأمر الذى يمكن أن ينعكس به القمع السياسى على المجتمع كله ، وخاصة على الرجل فى إطار تعاملاته مع المرأة .
ويتصل بهذا البعد تصاعد تأثير جماعات العنف الضاغط (6) الموازية لسلطة الدولة المدنية والمضادة لها باستمرار ، وأوضح ما يكون ذلك فى جماعات التطرف الدينى المناهضة دائماً لحرية الفكر والإبداع والإحياء والتجديد ، كما تناهض كل ما هو خلاًّْق وراق ومبدع وبصفة خاصة مع الأنثى ، كما تقاوم وتسعى لتقويض كل ما هو تقدمى وحديث وهى تنظيمات وجماعات متخلفة ومخالفة للدين بحسب الأصل ولقد أسهمت هذه العصابات فى تصاعد درجات العنف داخل المجتمع الواحد من حيث السلوك والفعل والفكر والحركة أى على جميع الأصعدة ، كما أسهمت فى نمطية الخطاب الدينى وتكريسه وتجسيده بشكل بعيد كل البعد عن المضمون الحقيقى والصحيح للنص المقدس وأدت به الى الموات .
وبعيداً عن خطاب العنف الذى تتسربل به هذه التيارات جميعها وتكفيرها للمجتمع والدولة على حد سواء ، ما لجأت اليه هذه العصابات المدمرة الإرهابية الشاذة فى كل شىء ، من الملاحقات القضائية لأصحاب الفكر والإبداع والإحياء والتجديد من المفكرين سواء الذكور أو الإناث من أمثال حسن حنفى و نصر أبوزيد وفرج فوده والعشماوى وغيرهم وأيضاً ليلى العثمان وعالية شعيب ورموقة حسن وغيرهن كثيرات .
وليس ثمة شك عندنا من أن تأثير تصعيد جماعات الضغط الإرهابية المتطرفة دينياً قد ساهم بنصيب كبير فى تضخيم حضور الرقيب الداخلى للكتابة الإبداعية فضلاً عن الرقيب الخارجى للدولة والمجتمع سواء تعلق الأمر بالكتابة عند الرجال أو النساء على حد سواء ، وليس بعيداً عن ذلك أيضاً ما نلاحظه من أن الأنظمة التعليمية لا تزال فى بعض مجالاتها على الأقل تكرس التمايز بين الذكر والأنثى وتدعم الموروثات التقليدية الجامدة والتى تساهم فى نشرها وسائل الإعلام التابعة لتلك التيارات وأصحاب المصالح وربما أحياناً الدولة ، ولذلك نطالب بعملية تنوير جذرية للمسألة التعليمية بجميع مستوياتها .
ولا ينفك عن ذلك ما يلاحظ من أن مشاركة الأنثى فى النشاط الثقافى العام أقل من مشاركة الذكر ، وهذا يرجع بالضرورة فى التصور السائد لدينا الى تلك الأعباء الإضافية الملقاة على عاتق المرأة العاملة وأيضاً سيادة الفكر المتطرف والنظرة الى المرأة على أنها غير مؤهلة إلا للمنزل فقط ، وهو وهم لا صحة له سيما فى عصر السماوات المفتوحة وما بعد الرقمية ، فضلاً عن دور جماعات التخلف والإرهاب والإستبداد الدينى من الإخوان ومدعى السلف (السلفيين) وهؤلاء أشد خطراً على المجتمعات من الإستبداد السياسى أو حتى الإحتكار الإقتصادى .
ويتوازى مع ذلك أيضاً ملاحظة أخرى مفادها ما تقوم به الأنثى من إعادة إنتاج الثقافة التى تقوم بقمعها والتقليل من شأنها هذه الجماعات ، وذلك على مستوى الوعى الإمبريقى ، ويظهر ذلك على مستوى التجمعات النسائية الكلاسيكية التى تتبنى التصورات المختلفة حول المرأة والتى تعد فى الحقيقة مخالفة لأصول الأديان سيما الإسلام ، وتقوم بدور الحارس الأمين على بقاء قيم التخلف والجمود والإنحطاط بالمرأة وحرمانها من جميع حقوقها حتى الحق فى الحياة والكرامة والحريـة التى منحها الله اياها فى كتابـه العـزيز (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً ) فالخطاب الإلهى هنا لم يوجه لآدم بمفرده وانما آدم وحواء معاً ، فالحقوق بينهما متساوية تماماً دون تفرقة بسبب النوع "الجنس" أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو اللون .....الخ .
ويضاف إلى ما سبق ، التحدى العالمى الذى يتمثل فى ثورة الإتصال التى أحالت العالم إلى حجرة واحدة لا مناص من الوحدة والعيش فيها ، ويرتبط بذلك صعود العولمة والهيمنة الكونية ، مما أدى الى اتساع الهوة بين الأمم المتقدمة والأمم الآخذة فى النمو أو المتخلفة بتعبير أدق وأشمل (7) أدى الى تجسيد واقع التبعية كحقيقة واقعة فى حياتنا مما ينبع عنه من تبعية فى جميع الميادين السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والأدبية.
ولا ينفصل هذا التحدى عن المشكلة الناتجة عن الهوة التى تزايد اتساعها بين الأمم المتقدمة والأمم المتخلفة ، فتتجسد فى نوع من المفارقة الثقافية التى أصبحت قائمة فى واقع المرأة العربية وبصفة خاصة عندما تستفيد هذه المرأة من أحدث آليات التقدم الإتصالى وأوسع أشكال التقدم المعرفى العالمى ، فى الوقت الذى لم تتحرر فيه تماماً من أشكال الهيمنة الذكورية التقليدية وتوابعها ، وهى مفارقة توازيها مفارقة أخرى مؤداها ضرورة وعى هذه المرأة بالعالم المتقدم ومعايشتها أوجه تقدمه فى الوقت الذى لا تزال مكبلة فيه بأسوأ أشكال تخلف مجتمعها وشروط جموده وتخلفه .
وصفوة القول: أن مفاتيح الخروج من مأزق الإستبداد أياً كان سواء أكان استبداداً إجتماعياً أو استبداداً سياسياً ، هى الحرية والمساواة والعدالة بين جميع أفراد المجتمع ذكوره بإناثه دون تفرقة بين فئاته مع السعى لتذويب جميع الفوارق بين طبقات المجتمع الواحد ، فهذا هو الطريق الصحيح للنهضة الحقيقية للمجتمع وعلينا أن نتمسك بأهداب هذه الآليات الثلاثة (الحرية – المساواة – العدالة) ونعمل جادين على تحقيقها مهما واجهتنا من معوقات داخلية أو خارجية.
الهوامش
أنظر للدكتور السيد أبو عيطة، كتابة الأسطورى ، الجائز وغير الجائز فى نكاح العجائز ، الناشر مكتبة مدبولى القاهرة الطبعة الأولى 2020 ص 72 وما بعدها.
جابر عصفور، نقد ثقافة التخلف، دار الشروق ، القاهرة ، 2010م.
هشام شرابى، البنية البطريركية، بحث فى المجتمع العربى المعاصر، دار الطليعة 1987.
زكريا ابراهيم ، مشكلة الحرية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010 ص14.
زكريا ابراهيم ، مشكلة الحرية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010 ص15.
دكتور السيد أبو عيطة ، الحركة العالمية للجماعات الإسلامية، دار النهضة العربية القاهرة طبعة 2004.
الدبلوماسية فى زمن الرقمية، الدكتور السيد أبو عيطة ، الناشر دار الفكر الجامعى، الأسكندرية ، طبعة 2014م.
بقلم المستشار الدكتور
السيد أبو عيطة
متابعة الصحفية / والإعلامية د .لطيفة القاضى
(1) إشـكـاليـة المجتمع الذكـورى العــربى(1) :
هذا المرض الفتاك الذى تظهر أعراضه فى أطراف الجسد العربى ، على صعيد الدولة والمجتمع والأسرة والفرد ، وتتمثل هذه الأعراض على الصعيد المجتمعى فى التركيب الإجتماعى الذكورى والعلاقات المهيمنة فيه ، فى تغلب الإنتماءات الجزئية والمحلية كالطائفية والقبلية فى الممارسات الإجتماعية فى هيمنة السلطة الأبوية فى العلاقات الذاتية وتضاربها مع الأهداف القومية والمصالح العامة . وتتضح هذه الأعراض المرضية أكثر وأكثر فى إطار الأسرة وعلاقة الأنثى بالرجل وانتقال السلطة الذكرية من خلال التناسل الذكورى من الأب إلى الإبن الأكبر ثم الأصغر ومن قبل ذلك من الجد إلى الأب ، هذه السلطة الذكورية هى الأكسوجين الذى يتنفسه المجتمع الذكورى ومبرر بقاءه على قيد الوجود ، والأنثى هى وقود هذا المجتمع الهرمى الذكورى .
ويعتبر تفكير ونضج المرأة ودفاعها عن حقوقها وحرياتها بمثابة القنبلة الموقوتة التى تقلق المجتمع التقليدى الذى اعتاد على سلب المرأة حقوقها وحرياتها رغم أنها متساوية من حيث الأصل والمبدأ مع الرجل أمام الله فى كل شىء بما فى ذلك الحقوق والواجبات العامة ، فكلما كانت الأنثى قادرة على المقاومة والتحدى والرفض كان ذلك بمثابة زعزعة لأسس نظام اعتاد على السمع والطاعة من الرعية بصفة عامة والمرأة بصفة خاصة ، فكان ذلك التحدى بداية إنهيار لأسس هذا النظام الضارب جذوره فى الأعماق .
فالمنطلق الأساسى إذن هو إحياء المرأة كشرط لإحياء المجتمع ، ودون هذا الإحياء الأنثوى فلن تُجدى أى إصلاحات أو إنقلابات أو ثورات لأنها لن تفرز إلا مزيد من الإستبداد السياسى والإجتماعى والدينى (2) من هنا كان لابد من القيام بعملية نقد ذاتى على أوسع نطاق لا فى ضوء المفاهيم التراثية فحسب التى تمنح المرأة حقوقها ، بل أيضاً فى ضوء الواقع الوجودى الإجتماعى الذى يميز الذكر على الأنثى منذ اللحظة الأولى للوجود الإنسانى .
فالنظام المستبد (3) والمجتمع المستبد يرتكز على الأنثى التى تمثل فى ذات التوقيت نقطة ضعفه ووسيلة استمراره ، وعندما تصبح الأنثى قادرة على الرفض والمقاومة تهتز أركان ذلك النظام اللاهوتى وتتوارى شرعيته الزائفة ، فشرط إحياء المجتمع هو إحياء المرأة ، وبما أن العلاقة بين الذكر والأنثى علاقة جنسية فى ظل المجتمع التقليدى المستبد ، فينبغى تحويل هذه العلاقة إلى علاقة اجتماعية جديدة ، تقوم على أساس المصلحة العامة والعقلانية والحكمة والشرعية ، فإذا أردت إحياء المجتمع مجدداً فعليك بإحياء المرأة من جديد ، وإذا ما أردت إحياء المرأة مجدداً فعليك بالقضاء على المجتمع الذكورى المستبد والإنتقال إلى مجتمع عادل متساو ديمقراطى لأن الله لم يفرق بحسب الأصل العام بين آدم وحواء ، ونؤكد هنا أن الحركة النسائية هى الوحيدة القادرة على إطلاق شرارة التغيير التى تنسف المجتمع الإستبدادى الذكورى .
(2) آليات إحياء المرأة : الحرية والنسوية والمواطنة :
تتعدد آليات إحياء المرأة من جديد ، فيمكن عن طريق التربية والتعليم والدين والأخلاق نسمو بها ، غير أن وسائل إحياء المرأة فى العلم الحديث دارت حول ثلاثة آليات ، هى منح المرأة الحرية المسئولة ، وإعتناق الفكر النسوى الإجتماعى ، وتوطين المرأة ومساواتها بالرجل ، فما هى الحرية وماهى النسوية وما هى المواطنة ؟
- الحرية (4) : إن إشكالية الحرية تعتبر - بلا شبهة - من أقدم وأعقد الإشكاليات الفلسفية على حد سواء ، وفضلاً عن ذلك فإن مسألة الحرية اليوم بل وغداً من أخطر المسائل التى يعرض لها العلماء كدراسة ، إذ قد أدى تطور العلوم الى معاودة النظر فى مبدأ الحتمية مما أدى الى قيام نزاعات احتمالية فى إطار ونطاقات العلوم نفسها تعبر عن قيام حرية ميتافيزيقية عامة ، فإذا ما أنصفنا آراء بعض الباحثين مثل سارتر حيث يوحدون بين الحرية والوجود الإنسانى أمكننا تصور حجم وكيف هذه الإشكالية العالمية .
إن الوجود الإنسانى حقيقة ذو طابع خاص يجعل كل منا موجوداً وحراً قد قُذف به وحيداً فى هذا العالم ، فمشكلة الحرية إذاً هى مشكلة الوجود البشرى بأسره وليست اشكالية المرأة وحدها ، فالحرية هى مطلب إنسانى وليست مطلب أنثوى فقط ، فالكشف عنها سوف يكشف لنا عن معانى كثيرة مبهمة مثل : القيم والفعل والقلق والوجود نفسه .
غير أننا نحيا فى عالم ملىء بالعوائق ، ولابد للحرية من أن تصطدم بهذه المعوقات حتى تتحول إلى قيمة ، وقد يتصور البعض أن الحرية هى منحة قد جادت بها الطبيعة ولكنها فى الحقيقة كسب تم إحرازه ، وحينما يضعف بعض البشر أو يسقطوا فى الخطيئة يبرروا سلوكهم المشين هذا بعوامل خارجية أو لا إرادية مثل مشكلة البيئة والوراثة والظروف الإقتصادية والقضاء والقدر الإلهى . وكل ذلك من ضعف الإنسان واخطاؤه ، ﴿فلا تلومونى ولكن لوموا أنفسكم﴾ ، ﴿وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى﴾ .
فالحرية من الناحية الفلسفية (5) هى اختيار الفعل عن تدبر وحكمة مع القدرة على عدم إختياره أو مكنة اختيار غيره ، والحرية يمكن أن تكون حرية تصميمية ويمكن أن تكون حرية تنفيذية . فالحرية التصميمية هى ملكة الإختيار أو القدرة على الإختيار بمعنى إنعدام الإكراه ، أما حرية التنفيذ هى القدرة على الأداء أوعدم الأداء بمعنى القدرة على الحركة أو الفعل ، والقدرة أيضاً على عدم الفعل أو الإمتناع دون الوقوع تحت أى ضغوط خارجية مؤثرة .
(3) الحرية والحركات النسائية فى الشرق الأوسـط :
لقد انطلقت الحركة النسائية فى الشرق الأوسط من مصر وتحديداً من ميدان التحرير الذى كان يسمى بميدان الجلاء ثم سُمى بعد ذلك بميدان التحرير بعدما قامت نساء من أمثال هدى شعراوى ونبوية موسى وصفية زغلول وأمينة السعيد وغيرهن بخلع نقابهن فى الميدان ووضعه تحت أقدامهن ، معلنين الحرية للنساء وانتهاء عصر الحريم .
- والنسوية : هى إدراك القيود المفروضة على المرأة ومحاولات نزع هذه القيود وتطوير نظام نوعى أكثر عدلاً وإنصافاً ترتبط به أدوار جديدة للنساء وعلاقات جديدة بين النساء والرجال .
ويلاحظ ان الدين الإسلامى تحديداً يظل محتفظاً داخل التوجه البحثى السلفى التقليدى بقبضته القوية كنموذج تفسيرى شامل وبوجه خاص فى تحليلات النساء والنوع وذلك رغم نمو نقد قوى مضاد للإستشراق منذ صدور كتاب إدوارد سعيد " الإستشراق " وتسجيل مارنيا لازرج ان الموضوع ليس نبذ دور الإسلام فى حياة النساء والرجال ولا تفخيمه ، والأهم هو دراسة الأوضاع التاريخية التى من خلالها يكون للدين شأن ذى بال فى إنتاج الفوارق والمساواة النوعية وإعادة إنتاج كل منهما .
ولقد كان تطوير النساء نحو نموذج إحياء المرأة لما قمن به من حركات نسائية جزءً من عملية تاريخية شاملة كانت فيها التغيرات فى وضع الأنثى وإعادة هيكلة العلاقات الأنثوية الذكورية النوعية من المسائل الملتهبة فى ثقافة وفكر الشرق الأوسط عامة والمجتمع العربى بصفة خاصة حول مسائل ومفاهيم الثقافة والهوية والشخصية والوطنية ، ولقد كانت تلك التحولات والسجالات العنيفة التى آثارها متجذرة فى التغيير السياسى والإقتصادى والإجتماعى والثقافى أياً كان المدى الذى بلغه ابراز الدين والتقاليد والثقافة والأعراف السائدة آنذاك .
(4) النسوية والمواطنة :
وحتى وقت قريب لم تكن النسوية بأمر ذى بال لدى منظرى المواطنة ، كما لم تكن هذه الأخيرة ذات أهمية لدى منظرى النسوية ، لقد عكفت الموجة الثانية من النسوية والتى ظهرت فى الستينيات على إشكالية وضعيات النساء الرسمية والمادية ، غير أن هذه الموجة خلال تناولها للإضطهاد الواقع على النساء وحاجتهن للتحرر والمساواة ، وفى أثناء تأكيدها الحاجة الى تغيير بنية المجتمع وتوجهاته لم تعبر عن هذه الأفكار صراحة من خلال أطروحات المواطنة .
أيضاً لم تستخدم المنظرات النسوية بصورة صريحة مصطلح المواطنة فى العقدين التاليين لعقد الستينات ، لقد بدأت بعض الخبيرات من شاكلة كارولين رامازا 1989 واليزابيث سبيلمان 1988 ودينيس ريلى 1988 فى شن الهجوم على مقولة وجود نظرية عالمية لإضطهاد جميع النساء فى العالم أو حتى كل نساء الشرق الأوسط ، غير أن الحركة النسائية فى ذلك الحين لم تستخدم آلية المواطنة فى سبيل إحياء الأنثى وانما استخدمت آليات أخرى مثل التنمية والإستقلال والوطنية السياسية والديمقراطية ، غير أن هناك من الناشطات الأنثويات من استخدمن آلية المواطنة بعد ذلك للتحرر ومواجهة الإضطهاد .
لقد أصبحت المواطنة كلمة رنانة فى الوسط الثقافى والإجتماعى خلال العقد الأخير من القرن المنصرم ، كما تم تمرير عدة قضايا هامة من خلالها مثل الرفاهية والأمن والسلام الإجتماعى ، غير أن منظرى المواطنة لم يعطوا القضايا النسوية جليل جهودهم ، فلم تناقش قضايا الأنثى من خلال المواطنة وانما من خلال النوع فقط فى تلك الفترة ، غير أنه مع بداية العام 1989 وهو بداية تحول عالمى أيضاً بدأ الإهتمام والربط بين النسوية والمواطنة تفكيراً أو تنظيراً .
غير أن هناك العديد من القضايا المرتبطة والمشتركة بين النسوية والمواطنة مثل الحرية والمساواة السياسية والعدالة والديمقراطية والتنمية والحقوق والواجبات ، غير أنه رغم ذلك فلقد ظلت الروابط بين النسوية والمواطنة قد ظلت ضعيفة نسبياً ، إذ كان من شأن الحوار بين الطرفين أن تثرى الطرفين معاً ، كما كان من شأن الطرفين أن يمنحهما الكثير مثل طرائق جديدة لمقاربة الموضوعات أفكاراً جديدة لإستكشافها ضمن إطار نظرى بديل وأيضاً القدرة على النقد الذاتى .
فالمواطنة هى العلاقة بين الدولة والفرد من الناحية السياسية والإجتماعية والإقتصادية والقانونية أيضاً ، ولها أربعة صور ، الصورة الجمعانية ، الصورة المدنية ، والليبرالية الجديدة ، والليبرالية الإجتماعية ، فالصورة الجمعانية تركز على المشاركة والخدمات الإجتماعية بهدف المصلحة العامة ، أما الصورة السياسية المدنية فتظهر المواطنة بوصفها المشاركة السياسية وهى تعود من الناحية التاريخية إلى فكرة مساهمة المواطنين فى صنع القرار وإضفاء القيمة على كل من الحياة العامة والجدل العام ، كما يشير الى فكرة مفادها أننا يجب أن نفهم أنفسنا باعتبارنا كائنات سياسية ، أما الليبرالية الجديدة فالمواطن فيها له وضعيته القانونية المركزية لردح من الزمن ، وقامت ببناء قيم مثل العدالة والإنصاف و بقيت النساء مواطنات من الدرجة الثانية أو جنساً ثانياً ، وفى هذه الجزئية سأقدم دليلاً على ذلك عن طريق اتخاذ الدول الأعضاء فى الإتحاد الأوروبى كنماذج للديمقراطيات الليبرالية عموماً ، تبرهن إحصاءات عام 1994 أن تمثيل النساء فى المستويات الأعلى لإتخاذ القرار بالدول الأعضاء فى الإتحاد الأوروبى ، قد ظل دون المستوى ففى نماذج مختارة من الإحصاءات حول الجماعة الصانعة للقرار السياسى ، وكذلك فى الحكومات على مستوى المحليات وعلى المستوى القومى ، بلغت نسبة النساء 16٪ ، وفى الإتحاد الأوروبى مثلت المرأة نسبة 26٪ ، وفى كل مائة إمرأة عاملة فى المفوضية الأوروبية هناك ستون يعملن سكرتيرات ، وتسع مديرات فقط فى حين كان نسبة 46٪ من الموظفين الرجال يعملون كمديرين .
وفى الإدارة العامة فى اثنتى عشرة دولة هى الأعضاء فى بداية التسعينيات نجد 23٪ من النساء فى أسفل سلم الإدارة ، و10٪ فى المستوى الإدارى العادى ، فى حين نجد 6٪ من المناصب العليا . فإذا جمعنا القطاعين العام والخاص سترتفع النسبة الى حد ما ؛ فحوالى 30٪ من أعضاء اللجان التشريعية وكبار المسئولين والمديرين كانوا من النساء وذلك عام 1993 . وفى النقابات العمالية سنجد فقط 71٪ من العاملين باللجان التنفيذية نساءً وذلك عام 1993 . وأكثر من ذلك ؛ ففى غرب أوروبا عام 1994 احتلت النساء فقط نسبة 12٪ من مواقع المديرين فى مجال الإعلام ، ونسبة 18٪ فى مجال الصحافة.
ومن جهة أخرى كانت الوضعيات الإجتماعية للنساء فى الإتحاد الأوروبى متدنية جداً ولنأخذ عام 1992 كانت النساء اللاتى تضمهن قوة العمل ويعملن يوماً كاملاً تقل أجورهن بمقدار 1,5 الى 2,6 عن الرجال ، وسترتفع النسبة أكثر إذا وضعنا فى الإعتبار العاملات اللواتى يعملن بعض الوقت Part-Time كما تبلغ نسبة النساء العاطلات فى الشريحة العمرية من 20 الى 59 سنة حوالى 37٪ ، و56٪ يعملن ، فى حين تبلغ نسبة العاطلين من الرجال فى الشريحة نفسها 12٪ .
وطبقاً لمنظور الليبرالية الإجتماعية ، يجب أن تكون المواطنة شاملة وقائمة على المساواة ؛ أى تشمل كل البالغين ضمن نطاق الدولة ، كما يجب أن تضمن المساواة فى الحقوق المدنية والسياسية والإجتماعية كمقابل للمساواة فى الواجبات . ويحصل الأفراد بمقتضاها على أكبر قدر ممكن من التحرر ليمارسوا حقوقهم ، وليطوروا شخصياتهم . وبناءً على هذا يسعى الأفراد لوضع تدخل الدولة فى حياتهم أو تدخل الأفراد من المواطنين فى حدوده الدنيا . ورغم ذلك ، فإن حقوق المواطنة الإجتماعية – مثل الحق فى معونة البطالة ، والحق فى المعاش بعد التقاعد – قد جعلت وجود الدولة أكبر مما كانت ترغب الليبراليات الإجتماعية . ربما سعت تلك الليبراليات لإبقاء تدخل الدولة فى حدوده الدنيا عن طريق عدم المطالبة بأى شىء فى مقابل توفير الرفاه الإجتماعى ، ولكن ما إن يقر المواطنون بالشروط التى تؤهلهم لشغل الوظائف ، يصبح من حق الموظفين المدنيين أن يمارسوا الرقابة للتأكد مما إذا كان المواطنون قد استوفوا هذا الإلتزام أم لا .
وللمواطنة الليبرالية الإجتماعية معيار أخلاقى محدود ، وهو ما يمكن أن نجده – غالباً – فى قوانين الدولة ، هذا المعيار هو ما تتمتع به العدالة وعدم التحيز من سمة أخلاقية . إنها فكرة وجوب أن يتم التعامل مع كل شخص بطريقة متساوية فى النطاق العام ، نطاق العدل . أما فى المساحة الخاصة – أى فضاء العائلة – فبإمكاننا ممارسة أفكارنا الخاصة عن كيف تكون الحياة الجيدة ، أو أفكارنا الملحة حول معنى الأخلاقية ، وعلى النقيض فى النظام العام ؛ حيث من شأن القواعد الأساسية أن تكون متسامحاً كأن لا يؤذى بعضنا بعضاً ، وألا يفرض بعضنا على بعض مطالب مرهقة وأن يقل بقدر الإمكان تدخل بعضنا فى حياة البعض .
وطالما وجهت النسويات الإنتقاد للنظرية الليبرالية الإجتماعية. ولربما قام هذا الإنتقاد على أرضيات قوية ، فبينما سادت الليبرالية الإجتماعية فى العالم الغربى العاملين منهم 81٪ وفى القوة العاملة تعمل 29٪ من النساء بعض الوقت ، فى حين يعمل 4٪ فقط من الرجال بعض الوقت .
و أخيراً ، تظهر الدراسات القومية المعاصرة فى ست دول متقدمة أن نسبة 17٪ الى 28٪ من النساء البالغات قد اغتصبن جسدياً على يد زملائهن المقربين فى العمل ، ونسبة 72٪ الى 34٪ من النساء قد سجلن اعتداءات جنسية وقعت عليهن أثناء فترة الطفولة أو المراهقة .
وترتبط هذه الحقائق عن وضعية النساء كمواطنات من الدرجة الثانية بما توصلت اليه النسويات من أن المفهوم الليبرالى الإجتماعى عن المواطنة هو مفهوم ناقص ، لكن هل الإنتقادات النسوية لليبرالية الإجتماعية مؤهلة لأن يستنير بها المرء فى اكتشاف بدايات مفهوم بديل أكثر ايجابية للمواطنة ؟ أم أن هذه الإنتقادات كانت غير كاشفة منذ البداية حتى يمكننا القول بأنه لا يوجد عيب فى مفهوم الليبرالية الإجتماعية للمواطنة ؟ وهل هناك احتمال لوجود عيوب أخرى فى مفهوم الليبرالية الإجتماعية لم تقم النسويات بتعريفه ؟ وهل يجب أن نطور مفهوماً بديلاً فى اتجاه مغاير للإتجاه الذى تطرحه الإنتقادات النسوية الحالية ؟
(5) إحياء الأنثى : الآليات الجديدة :
غير إننا نتصور أن توصيف المشكلات الثقافية للمرأة العربية اليوم وغداً يتطلب مجموعة من الملاحظات الإستهلالية التى لها أهمية خاصة فى هذا السياق أولها أنه لا يمكن فصل ثقافة المرأة عن ثقافة الرجل ، ثانيها أنه لا يمكن فصل الأوضاع الثقافية فى أى قطر عربى عن بقية الأقطار ، فالعلاقة الثقافية بين الأقطار العربية علاقة متبادلة ، وثالثها أنه لم يعد ممكناً الحديث عن ثقافة عربية للمرأة بمعزل عن ثقافة العالم المعاصر .
ومن هذا المنطلق التحليلى يمكن الحديث عن أهم المشكلات الثقافية التى تعانيها المرأة العربية المعاصرة أو فى الشرق الأوسط بصفة عامة ، وأولى هذه المشكلات هى الميراث الثقافى التقليدى الجامد الذى لا يزال مهيمناً بنزعاته المتحجرة وهو ميراث لا يزال ينظر إلى المرأة على انها ناقصة عقل ودين ، مستنداً فى ذلك الى مرويات نقلية غير صحيحة أحياناً وتأويلات بشرية مغلوطة لنصوص دينية لها معان وتأويلات أخرى مغايرة والى نظرة متعصبة تبرر كل شىء على أساس من الماضى .
ويضم هذا الميراث وتلك التركة من توافر من أحكام وتصورات وعادات وممارسات لا تكف عن تحقير النساء وسوء الظن بهن والتقليل من شأنهن . غير إننى لا أريد الإطالة فى مأثورات هذه التركة فهى أكثر من حجم أضعاف هذا المقال والتى شاعت فى عصور الظلام والضعف والهوان ، حيث مازالت فاعلة فى اللاوعى التقليدى الجمعى لمدعى السلفية وجماعات التخلف والإرهاب والتطرف.
هذا الميراث الثقافى الذى لا علاقة له بالوحى والنص الصحيح والتأويل الصحيح للنصوص المقدسة والذى يحط من شأن المرأة فى مخالفة جسيمة للنص المقدس ، لا تزال آثاره موجودة الى اليوم وسوف تمتد إلى عدة أجيال قادمة ، بفضل الجماعات والتيارات المعتنقة للفكر التقليدى والاتباع وليس الإبداع وأتباع التقليد وليس إعمال العقل وهى الجماعات التى لا تزال تستريب حضور المرأة وترفض الإعتراف بحقوق المرأة التى أقرها الإسلام الصحيح والفهم الصحيح للنصوص المقدسة .
وثانى هذه المشكلات هو ما تعيد الثقافة السائدة انتاجه من موروث إجتماعى ذكورى تسلطى وهو موروث لا يزال يفرض التمايز بين الذكر والأنثى فى الوضع الإجتماعى والسياسى والإقتصادى .
ومن البديهى والحال كذلك أن يستنكر الوعى الذكورى العام ولو على المستوى اللاشعورى ، ترقى المرأة وبلوغها قمة الهرم الإجتماعى والسياسى والإقتصادى ولن يسمح بفتح أبواب المناصب العليا أمام الأنثى ، هذا فضلاً على بقاء وتكريس القيود المفروضة إجتماعياً على إبداعات المرأة ونتاجها الفكرى فى معظم البلدان العربية ، وهى قيود نابعة من عادات ومفاهيم وقيم مترسخة ، ينظر فيها إلى ممارسة المرأة للإبداع الأدبى أو الفكرى باعتباره أمراً معيباً ، لذلك فإن نسبة المبدعات من النساء أو المشتغلات بالفكر والبحث العلمى والأدب والثقافة أقل بكثير من نسبة الرجال ، كما أن نسبة ما هو متاح ومباح للرجال من فعله فى هذا المجال ؛ أكبر بكثير من ما هو متاح ومباح للأنثى ، لذلك فإن المسكوت عنه فى الخطاب الأنثوى فى المجتمعات الشرقية أكبر بكثير من المسكوت عنه فى الخطاب الذكورى.
بيد أن هذا الموروث الذى تعيد الثقافة التقليدية إنتاجه مراراً وتكراراً وعلى مستويات متعددة وبأشكال مختلفة وإن كان الجوهر والمنهج متحد هو المسئول الأول عن تقلص الحضور السياسى والإجتماعى والإقتصادى للأنثى ، فالوعى الإجتماعى العام لا يزال وسيظل لعدة قرون قادمة متأثراً بموروثاته السلبية على مستوى اللاشعور الجمعى ، ولا يزال رافضاً تقبل تمثيل المرأة أو رئاستها للذكر فى عدة ميادين وعدة مستويات .
ويمكن أن نضيف أيضاً الى المشكلات الثقافية للمرأة العربية غياب الحرية السياسية بمعنى أو أكثر فى الأقطار العربية ، الأمر الذى يمكن أن ينعكس به القمع السياسى على المجتمع كله ، وخاصة على الرجل فى إطار تعاملاته مع المرأة .
ويتصل بهذا البعد تصاعد تأثير جماعات العنف الضاغط (6) الموازية لسلطة الدولة المدنية والمضادة لها باستمرار ، وأوضح ما يكون ذلك فى جماعات التطرف الدينى المناهضة دائماً لحرية الفكر والإبداع والإحياء والتجديد ، كما تناهض كل ما هو خلاًّْق وراق ومبدع وبصفة خاصة مع الأنثى ، كما تقاوم وتسعى لتقويض كل ما هو تقدمى وحديث وهى تنظيمات وجماعات متخلفة ومخالفة للدين بحسب الأصل ولقد أسهمت هذه العصابات فى تصاعد درجات العنف داخل المجتمع الواحد من حيث السلوك والفعل والفكر والحركة أى على جميع الأصعدة ، كما أسهمت فى نمطية الخطاب الدينى وتكريسه وتجسيده بشكل بعيد كل البعد عن المضمون الحقيقى والصحيح للنص المقدس وأدت به الى الموات .
وبعيداً عن خطاب العنف الذى تتسربل به هذه التيارات جميعها وتكفيرها للمجتمع والدولة على حد سواء ، ما لجأت اليه هذه العصابات المدمرة الإرهابية الشاذة فى كل شىء ، من الملاحقات القضائية لأصحاب الفكر والإبداع والإحياء والتجديد من المفكرين سواء الذكور أو الإناث من أمثال حسن حنفى و نصر أبوزيد وفرج فوده والعشماوى وغيرهم وأيضاً ليلى العثمان وعالية شعيب ورموقة حسن وغيرهن كثيرات .
وليس ثمة شك عندنا من أن تأثير تصعيد جماعات الضغط الإرهابية المتطرفة دينياً قد ساهم بنصيب كبير فى تضخيم حضور الرقيب الداخلى للكتابة الإبداعية فضلاً عن الرقيب الخارجى للدولة والمجتمع سواء تعلق الأمر بالكتابة عند الرجال أو النساء على حد سواء ، وليس بعيداً عن ذلك أيضاً ما نلاحظه من أن الأنظمة التعليمية لا تزال فى بعض مجالاتها على الأقل تكرس التمايز بين الذكر والأنثى وتدعم الموروثات التقليدية الجامدة والتى تساهم فى نشرها وسائل الإعلام التابعة لتلك التيارات وأصحاب المصالح وربما أحياناً الدولة ، ولذلك نطالب بعملية تنوير جذرية للمسألة التعليمية بجميع مستوياتها .
ولا ينفك عن ذلك ما يلاحظ من أن مشاركة الأنثى فى النشاط الثقافى العام أقل من مشاركة الذكر ، وهذا يرجع بالضرورة فى التصور السائد لدينا الى تلك الأعباء الإضافية الملقاة على عاتق المرأة العاملة وأيضاً سيادة الفكر المتطرف والنظرة الى المرأة على أنها غير مؤهلة إلا للمنزل فقط ، وهو وهم لا صحة له سيما فى عصر السماوات المفتوحة وما بعد الرقمية ، فضلاً عن دور جماعات التخلف والإرهاب والإستبداد الدينى من الإخوان ومدعى السلف (السلفيين) وهؤلاء أشد خطراً على المجتمعات من الإستبداد السياسى أو حتى الإحتكار الإقتصادى .
ويتوازى مع ذلك أيضاً ملاحظة أخرى مفادها ما تقوم به الأنثى من إعادة إنتاج الثقافة التى تقوم بقمعها والتقليل من شأنها هذه الجماعات ، وذلك على مستوى الوعى الإمبريقى ، ويظهر ذلك على مستوى التجمعات النسائية الكلاسيكية التى تتبنى التصورات المختلفة حول المرأة والتى تعد فى الحقيقة مخالفة لأصول الأديان سيما الإسلام ، وتقوم بدور الحارس الأمين على بقاء قيم التخلف والجمود والإنحطاط بالمرأة وحرمانها من جميع حقوقها حتى الحق فى الحياة والكرامة والحريـة التى منحها الله اياها فى كتابـه العـزيز (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً ) فالخطاب الإلهى هنا لم يوجه لآدم بمفرده وانما آدم وحواء معاً ، فالحقوق بينهما متساوية تماماً دون تفرقة بسبب النوع "الجنس" أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو اللون .....الخ .
ويضاف إلى ما سبق ، التحدى العالمى الذى يتمثل فى ثورة الإتصال التى أحالت العالم إلى حجرة واحدة لا مناص من الوحدة والعيش فيها ، ويرتبط بذلك صعود العولمة والهيمنة الكونية ، مما أدى الى اتساع الهوة بين الأمم المتقدمة والأمم الآخذة فى النمو أو المتخلفة بتعبير أدق وأشمل (7) أدى الى تجسيد واقع التبعية كحقيقة واقعة فى حياتنا مما ينبع عنه من تبعية فى جميع الميادين السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والأدبية.
ولا ينفصل هذا التحدى عن المشكلة الناتجة عن الهوة التى تزايد اتساعها بين الأمم المتقدمة والأمم المتخلفة ، فتتجسد فى نوع من المفارقة الثقافية التى أصبحت قائمة فى واقع المرأة العربية وبصفة خاصة عندما تستفيد هذه المرأة من أحدث آليات التقدم الإتصالى وأوسع أشكال التقدم المعرفى العالمى ، فى الوقت الذى لم تتحرر فيه تماماً من أشكال الهيمنة الذكورية التقليدية وتوابعها ، وهى مفارقة توازيها مفارقة أخرى مؤداها ضرورة وعى هذه المرأة بالعالم المتقدم ومعايشتها أوجه تقدمه فى الوقت الذى لا تزال مكبلة فيه بأسوأ أشكال تخلف مجتمعها وشروط جموده وتخلفه .
وصفوة القول: أن مفاتيح الخروج من مأزق الإستبداد أياً كان سواء أكان استبداداً إجتماعياً أو استبداداً سياسياً ، هى الحرية والمساواة والعدالة بين جميع أفراد المجتمع ذكوره بإناثه دون تفرقة بين فئاته مع السعى لتذويب جميع الفوارق بين طبقات المجتمع الواحد ، فهذا هو الطريق الصحيح للنهضة الحقيقية للمجتمع وعلينا أن نتمسك بأهداب هذه الآليات الثلاثة (الحرية – المساواة – العدالة) ونعمل جادين على تحقيقها مهما واجهتنا من معوقات داخلية أو خارجية.
الهوامش
أنظر للدكتور السيد أبو عيطة، كتابة الأسطورى ، الجائز وغير الجائز فى نكاح العجائز ، الناشر مكتبة مدبولى القاهرة الطبعة الأولى 2020 ص 72 وما بعدها.
جابر عصفور، نقد ثقافة التخلف، دار الشروق ، القاهرة ، 2010م.
هشام شرابى، البنية البطريركية، بحث فى المجتمع العربى المعاصر، دار الطليعة 1987.
زكريا ابراهيم ، مشكلة الحرية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010 ص14.
زكريا ابراهيم ، مشكلة الحرية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010 ص15.
دكتور السيد أبو عيطة ، الحركة العالمية للجماعات الإسلامية، دار النهضة العربية القاهرة طبعة 2004.
الدبلوماسية فى زمن الرقمية، الدكتور السيد أبو عيطة ، الناشر دار الفكر الجامعى، الأسكندرية ، طبعة 2014م.