#FF0000]]بقلم الدكتور/ ياسر عبدالهادي نصر[/size]
إن أصل الدين الإسلامي هو التيسير وهو ما جاء في قوله –عز وجل: { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }[البقرة من الآية:185]
و ما جاء في الحديث النبوي الجامع : "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» الحديث صحيح أخرجه البخاري (1/ 16) رقم 39، كِتَابُ الإِيمَانِ، بَابٌ: الدِّينُ يُسْر.ٌ
ومن هذا المنطلق شرعت في كتابة هذه السلسلة من المقالات لبيان مظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية، وهي مظاهر كثيرة لا تعد ولا تحصى في كل مجالات الحياة في العبادات وفي المعاملات، هذا أولا ، أما ثانيا فالهدف الأساسي هو الرد على كثير من المتعصبين والمتشدقين الذين يتشددون ويتعصبون لآرائهم ولا يقبلون الرأي الآخر حتى أعطوا صورة للعالم من حولنا أن الإسلام دين التشدد والمغالاة، وقد تلقف البعض منهم هذه الاعتقادات الخاطئة بقبول سيء لينال من الإسلام والمسلمين ؛ فيدسون السم في العسل بكلمات براقة وشعارات جذابة مزينة بشعارات إنسانية من منظمات عالمية ناهيك عن المناداة بحقوق الإنسان.
وقد انقضى عيد الفطر المبارك(1445هـ) ، وقد آثرت بيان بعض مظاهر التيسير في شهر رمضان المنصرف كمحصلة لبعض هذه التيسيرات.
قد انتشرت في هذه الأيام ظاهرة التشدد والتعصب والأخذ برأي واحد مما يعكر صفو المسلمين، وهذه الظاهرة أحيانا لها مواسم معتادة، وإن شئت فقل إننا على موعد متكرر كل عام مع هذا التشدد والتعصب خاصة مع مرور العشر الثانية من شهر رمضان المبارك، وهو الجدال القديم الجديد عن زكاة الفطر ، هل يتم إخراجها حبوبا أم نقدا؟!
وكل يدلي بدلوه في حكمها من العلماء أو غيرهم، ويختلط الحابل بالنابل ونشغل أنفسنا بهذه القضية و نتشاغل بها، وتتبدد الطاقات وتشتعل الساحات ليست فقط بين العلماء، بل بين العوام أيضا، وتعلو الأصوات وتنتشر المشاحنات؛ فهذا يصر على إخراجها حبوبا، والثاني يصر على إخراجها نقدا .
ومن هذا المنطلق كنت ألقى درسا عن صدقة الفطر وأحكامها، وأوضح القولين ويجب عدم الخلاف بين المسلمين في هذه الأمور اليسيرة ؛ فإذا بأحد الحاضرين قد طلب مني أن ألقي درسا عن عدم التشدد، وأن الدين يسر وليس عسرا ولا تشدد في الدين، فوجدت الأمر جدير بالاهتمام ، وجعلته جزءًا من خطبتي الأخيرة من رمضان (26 رمضان 1445)، على أن أقيد مظاهر التيسير وعدم التشدد على شهر رمضان المبارك، مع التنبيه على أن مظاهر التيسير ليست مقتصرة على شهر رمضان فقط بل ممتدة في الدين الإسلامي عامة، والآن ننطلق إلى مظاهر التيسير في شهر رمضان المبارك.
إن مظاهر التيسير وعدم التشدد في شهر رمضان المبارك كثيرة ، ولكن لا يلتفت إليها كثير من المسلمين مع أنه متنعم ومنغمس في تيسيراتها دون أن يشعر بها لأنها من نعم الله – عز وجل- الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، وأذكر من هذه المظاهر ما يلي:
المظهر الأول: صلاة التراويح:
صلاة التروايح أو صلاة القيام فهي أول مظهر من مظاهر التيسير وعدم التشدد؛ ذلك لأنها لم تكن فرضا على المسلمين في رمضان أو في غير رمضان ، بمعنى أنه ليس على المسلم أن يلتزم بصلاتها كل يوم ويفرضها على نفسه ،وإذا لم يصلها لا يكون آثما مذنبا.
وهذا ما بينه الرسول -صلى الله عليه وسلم - عندما صلاها في الليلة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة ؛ فانتظره الصحابة في الليلة الرابعة فلم يخرج ، وعندما سُئل عن ذلك فقال خشيت أن تفرض عليكم.
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-َ صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي المَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ القَابِلَةِ، فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ» الحديث صحيح أخرجه البخاري (2/ 50) رقم 1129، كتاب التهجد، بَابُ تَحْرِيضِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -عَلَى صَلاَةِ اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ.
فهذا مظهر من مظاهر التيسير وعدم التشدد، فقد راعى النبي- صلى الله عليه وسلم- التيسير بعدم فرضها على المسلمين وعدم التشدد .
ومن مظاهر التيسير:عدم التشدد بصلاتها كل يوم بجزء من القرآن الكريم في جميع المساجد ، أي : بمعنى التيسير حسب حال المسجد وحال المصلين ، فالإمام يراعي حال المصلين في مسجده.
ففي مسجد السوق وأصحاب المحلات التجارية يتيسر الإمام فلا يصلي بجزء كامل بل يصلي بآيات معدودة حتى لا ينفر الناس منه، وخاصة أصحاب الحاجات.
أما في المساجد الكبيرة فعليه الاجتهاد في العبادة بالطاعة والعبادة بالصلاة بجزء كامل؛ وذلك لأنه عادة ما يأتي إليها المصلي وهو على علم بطول الصلاة فيها، بل إن شئت فقل أنه يأتي من أجل الركون إلى رحاب الله في صلاته بجزء كامل.
المظهر الثاني: تمام الصيام لمن أكل أو شرب ناسيا
فهذا مظهر آخر للتيسير فمن أكل أو شرب ناسيا فصيامه صحيح ، فلم يتشدد التشريع في عدم صحة صومه بل راعى التيسير كما جاء في الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: «إِذَا نَسِيَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» الحديث صحيح أخرجه البخاري (3/ 31) رقم 1933، كتاب الصوم، بَابُ الصَّائِمِ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا
المظهر الثالث: التنوع في زكاة الفطر
إن صدقة الفطر يدور حولها السجال كل عام – كما بيت في المقدمة- ويتجادل فيها العوام ويختلف في العلماء ويتشاحنون بسببها حتى يُحرم الفقير خيرها، وقد حُرمت الأمة الإسلامية – سابقا- معرفة ميعاد ليلة القدر بسبب المشاحنات.
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ، وَالسَّابِعَةِ، وَالخَامِسَةِ» الحديث صحيح أخرجه البخاري (3/ 47) رقم 2023 ،كتاب الصوم، بَابُ رَفْعِ مَعْرِفَةِ لَيْلَةِ القَدْرِ لِتَلاَحِي النَّاسِ
وقد بدأ حديث زكاة الفطر بذكر صاعا من طعام، وهذا أول مظهر للتيسير فلم يحدد النبي – صلى الله عليه وسلم- نوع الطعام ،وهو تنوين للتنكير كما يقول أهل اللغة، بل تركه عاما حسب غالب طعام أهل البلد .
ثانيا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم- أربعة أنوع أخري للزكاة مختلفة الأسعار حتى لا يتشدد أحدٌ بفرض نوع معين على المسلمين، والمعيار في ذلك مراعاة مصلحة الفقير.
المظهر الرابع: جواز إخراج صدقة الفطر نقدا
جواز إخراج زكاة الفطر نقدا : هي المشكلة الكبرى المتكررة كل عام فهي مشكلة قديمة جديدة، ما بين مؤيد وما بين رافض.
وتكمن المشكلة ليس في حكم إخراجها نقدا ؛ بل تكمن في الخلاف بين أصحابها هذا يتعصب لرأيه والأخر يتمسك برأيه إلا من رحم ربي.
فعن أَبَي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ» الحديث صحيح أخرجه البخاري (2/ 131) رقم 1526، كتاب الزكاة، بَابُ فَرْضِ صَدَقَةِ الفِطْرِ
فيرى الجمهور إخراجا حبوبا، ويرى الحنفية جواز إخراجها نقدا
وقبل أن نتصور الخلاف في المسألة فأقص لكم قصة واقعية حول هذا الموضوع:
فقد كنت جالسا يوما (السبت الموافق 20 رمضان 1445) مع أحد الشيوخ فجاءه اتصال تليفوني من أحد معارفه يسأله: أن صديقا عزيزا عليه فقيرا مصاب بغسيل كلوي فقررت أن أجمع زكاة الفطر عني وعن أخوتي وأعطيها لها نقودا. فهل تجوز زكاة الفطر نقدا لهذا الصديق المريض؟
فأجاب الشيخ: هذا رأي بعض العلماء، ولكني أُفضل أن تخرجها حبوبا وهذا ما أميل إليه – انتهت إجابة الشيخ.
فإذا بالشيخ يسألني ما رأيك فتصنعت أني لم أسمعه مراعاة للأدب وعدم التنصت، فكرر علي ما حدث ؛ فقلت له يا شيخ أنت تطلب منه أن يخرج زكاة الفطر حبوبا عنه، و عن أخوته لهذا الفقير المريض؛ فهل يعطي هذا المريض المستشفى حبوبا لعلاجه ؟!!! فبُهت ....
وبعد فقد شرعت زكاة الفطرة مراعاة لمصلحة الفقير، للأسباب الآتية:
1- أن إخراج الحبوب أيام النبي – صلى الله عليه وسلم- لعلة أهمية هذه الأصناف والحاجة للطعام في ذلك الوقت، وقد انتفت العلة، وانتشرت الزراعات والأطعمة ؛ فالحاجة للنقود أفيد للفقير مراعاة للمصلحة الفقير .
2- أن الصحابة – رضوان الله عليهم- قد أخرجوها من غير هذه الأصناف مراعاة لصالح الفقير كما جاء في الحديث الصحيح:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ»، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ وَجَاءَتِ السَّمْرَاءُ، قَالَ: «أُرَى مُدًّا مِنْ هَذَا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ» والسمراء هي القمح، الحديث صحيح أخرجه البخاري (2/ 131) رقم 1508، كتاب الزكاة، بَابُ صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ
3- أن التعاملات بالنقود كانت ليست لها أهمية كبرى في تلك الفترة الزمنية، أما في عصرنا الحالي فكل التعاملات الاقتصادية بالنقود.
4- أن هذه الأصناف حجة عليهم؛ لأنهم لا يقولون بغيرها، ويخرجون البقوليات مثل الفول والعدس والفاصوليا و الشاي والشعرية والمكرونة...وبعض الأصناف الأخرى؛ فأقول لهم هذه الأصناف لم يذكرها الحديث فيجيبون أنها لمصلحة الفقير، فأقول لماذا إذن تنكرون أن مصلحة الفقير في النقود ولا تنكرونها في باقي الحبوب؟!!!
5- أن الحديث بدأ بأول الأصناف وهو " صاعا من طعام" ، فلم يحدد نوع الطعام وتركه ليلفت نظرنا أنها لصالح الفقير ، وأخذ العلماء من المصلحة أنها من غالب طعام أهل البلد، ومن مصلحة الفقير في هذه الأيام أخذها نقودا ليشتري بها طعاما أو ملابس لأولاده أو مصاريف علاج أو يدفع مصاريف الدراسة لأولاده.
ويؤيد ذلك :عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ» الحديث صحيح أخرجه أبو داود في سننه (2/ 111) رقم 1609،كتاب الزكاة ، باب زكاة الفطر، وصححه الحاكم 1/ 409
وذكرت الآية صفة الطعام بأنه من أوسط ما تطعمون أهليكم منه { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ }[المائدة من الآية:89].
وإن كانت هذه الآية الكريمة جاءت في كفارة اليمين إلا أننا نأخذ منها صفة الطعام وهو من باب حمل المطلق على المقيد كما يقول الأصوليون؛ فقد قيد الله – عز وجل- الطعام بأنه من أوسط ما نطعم منه أهلنا فنعمل به عند إطلاق الطعام كما في حديث صدقة الفطر.
والحديث ذكر: فأغنوهم عن ذل السؤال في ذلك اليوم ، ومن الذل أن يلبس أولادك ملابسا جديدة والفقير يراها ويتحسر على أولادها.
كما أنك تأكل في يوم العيد أشهى المأكولات و تُقيم العزومات وتُخرج للفقير التمر أو الشعير أو هذه الأصناف له، وكان الفقير يتمنى إخراجها نقودا ليشتري بعض اللحوم ليدخل الفرح والسرور على أولاده.
وأيضا نرى كثيرا من الفقراء يأخذون هذه الحبوب ثم يبيعونها للتجار بثمن زهيد ليحصلوا على النقود لشراء احتياجاتهم هم وأسرهم.
وللحديث بقية بمشيئة الله -عز وجل-.
أرحب بأسئلتكم ومقترحاتكم كتبه
العبد الفقير إلى الله -عز وجل-
د/ ياسر عبد الهادي نصر
تخصص شريعة إسلامية
إن أصل الدين الإسلامي هو التيسير وهو ما جاء في قوله –عز وجل: { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }[البقرة من الآية:185]
و ما جاء في الحديث النبوي الجامع : "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» الحديث صحيح أخرجه البخاري (1/ 16) رقم 39، كِتَابُ الإِيمَانِ، بَابٌ: الدِّينُ يُسْر.ٌ
ومن هذا المنطلق شرعت في كتابة هذه السلسلة من المقالات لبيان مظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية، وهي مظاهر كثيرة لا تعد ولا تحصى في كل مجالات الحياة في العبادات وفي المعاملات، هذا أولا ، أما ثانيا فالهدف الأساسي هو الرد على كثير من المتعصبين والمتشدقين الذين يتشددون ويتعصبون لآرائهم ولا يقبلون الرأي الآخر حتى أعطوا صورة للعالم من حولنا أن الإسلام دين التشدد والمغالاة، وقد تلقف البعض منهم هذه الاعتقادات الخاطئة بقبول سيء لينال من الإسلام والمسلمين ؛ فيدسون السم في العسل بكلمات براقة وشعارات جذابة مزينة بشعارات إنسانية من منظمات عالمية ناهيك عن المناداة بحقوق الإنسان.
وقد انقضى عيد الفطر المبارك(1445هـ) ، وقد آثرت بيان بعض مظاهر التيسير في شهر رمضان المنصرف كمحصلة لبعض هذه التيسيرات.
قد انتشرت في هذه الأيام ظاهرة التشدد والتعصب والأخذ برأي واحد مما يعكر صفو المسلمين، وهذه الظاهرة أحيانا لها مواسم معتادة، وإن شئت فقل إننا على موعد متكرر كل عام مع هذا التشدد والتعصب خاصة مع مرور العشر الثانية من شهر رمضان المبارك، وهو الجدال القديم الجديد عن زكاة الفطر ، هل يتم إخراجها حبوبا أم نقدا؟!
وكل يدلي بدلوه في حكمها من العلماء أو غيرهم، ويختلط الحابل بالنابل ونشغل أنفسنا بهذه القضية و نتشاغل بها، وتتبدد الطاقات وتشتعل الساحات ليست فقط بين العلماء، بل بين العوام أيضا، وتعلو الأصوات وتنتشر المشاحنات؛ فهذا يصر على إخراجها حبوبا، والثاني يصر على إخراجها نقدا .
ومن هذا المنطلق كنت ألقى درسا عن صدقة الفطر وأحكامها، وأوضح القولين ويجب عدم الخلاف بين المسلمين في هذه الأمور اليسيرة ؛ فإذا بأحد الحاضرين قد طلب مني أن ألقي درسا عن عدم التشدد، وأن الدين يسر وليس عسرا ولا تشدد في الدين، فوجدت الأمر جدير بالاهتمام ، وجعلته جزءًا من خطبتي الأخيرة من رمضان (26 رمضان 1445)، على أن أقيد مظاهر التيسير وعدم التشدد على شهر رمضان المبارك، مع التنبيه على أن مظاهر التيسير ليست مقتصرة على شهر رمضان فقط بل ممتدة في الدين الإسلامي عامة، والآن ننطلق إلى مظاهر التيسير في شهر رمضان المبارك.
إن مظاهر التيسير وعدم التشدد في شهر رمضان المبارك كثيرة ، ولكن لا يلتفت إليها كثير من المسلمين مع أنه متنعم ومنغمس في تيسيراتها دون أن يشعر بها لأنها من نعم الله – عز وجل- الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، وأذكر من هذه المظاهر ما يلي:
المظهر الأول: صلاة التراويح:
صلاة التروايح أو صلاة القيام فهي أول مظهر من مظاهر التيسير وعدم التشدد؛ ذلك لأنها لم تكن فرضا على المسلمين في رمضان أو في غير رمضان ، بمعنى أنه ليس على المسلم أن يلتزم بصلاتها كل يوم ويفرضها على نفسه ،وإذا لم يصلها لا يكون آثما مذنبا.
وهذا ما بينه الرسول -صلى الله عليه وسلم - عندما صلاها في الليلة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة ؛ فانتظره الصحابة في الليلة الرابعة فلم يخرج ، وعندما سُئل عن ذلك فقال خشيت أن تفرض عليكم.
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-َ صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي المَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ القَابِلَةِ، فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ» الحديث صحيح أخرجه البخاري (2/ 50) رقم 1129، كتاب التهجد، بَابُ تَحْرِيضِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -عَلَى صَلاَةِ اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ.
فهذا مظهر من مظاهر التيسير وعدم التشدد، فقد راعى النبي- صلى الله عليه وسلم- التيسير بعدم فرضها على المسلمين وعدم التشدد .
ومن مظاهر التيسير:عدم التشدد بصلاتها كل يوم بجزء من القرآن الكريم في جميع المساجد ، أي : بمعنى التيسير حسب حال المسجد وحال المصلين ، فالإمام يراعي حال المصلين في مسجده.
ففي مسجد السوق وأصحاب المحلات التجارية يتيسر الإمام فلا يصلي بجزء كامل بل يصلي بآيات معدودة حتى لا ينفر الناس منه، وخاصة أصحاب الحاجات.
أما في المساجد الكبيرة فعليه الاجتهاد في العبادة بالطاعة والعبادة بالصلاة بجزء كامل؛ وذلك لأنه عادة ما يأتي إليها المصلي وهو على علم بطول الصلاة فيها، بل إن شئت فقل أنه يأتي من أجل الركون إلى رحاب الله في صلاته بجزء كامل.
المظهر الثاني: تمام الصيام لمن أكل أو شرب ناسيا
فهذا مظهر آخر للتيسير فمن أكل أو شرب ناسيا فصيامه صحيح ، فلم يتشدد التشريع في عدم صحة صومه بل راعى التيسير كما جاء في الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: «إِذَا نَسِيَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» الحديث صحيح أخرجه البخاري (3/ 31) رقم 1933، كتاب الصوم، بَابُ الصَّائِمِ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا
المظهر الثالث: التنوع في زكاة الفطر
إن صدقة الفطر يدور حولها السجال كل عام – كما بيت في المقدمة- ويتجادل فيها العوام ويختلف في العلماء ويتشاحنون بسببها حتى يُحرم الفقير خيرها، وقد حُرمت الأمة الإسلامية – سابقا- معرفة ميعاد ليلة القدر بسبب المشاحنات.
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ، وَالسَّابِعَةِ، وَالخَامِسَةِ» الحديث صحيح أخرجه البخاري (3/ 47) رقم 2023 ،كتاب الصوم، بَابُ رَفْعِ مَعْرِفَةِ لَيْلَةِ القَدْرِ لِتَلاَحِي النَّاسِ
وقد بدأ حديث زكاة الفطر بذكر صاعا من طعام، وهذا أول مظهر للتيسير فلم يحدد النبي – صلى الله عليه وسلم- نوع الطعام ،وهو تنوين للتنكير كما يقول أهل اللغة، بل تركه عاما حسب غالب طعام أهل البلد .
ثانيا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم- أربعة أنوع أخري للزكاة مختلفة الأسعار حتى لا يتشدد أحدٌ بفرض نوع معين على المسلمين، والمعيار في ذلك مراعاة مصلحة الفقير.
المظهر الرابع: جواز إخراج صدقة الفطر نقدا
جواز إخراج زكاة الفطر نقدا : هي المشكلة الكبرى المتكررة كل عام فهي مشكلة قديمة جديدة، ما بين مؤيد وما بين رافض.
وتكمن المشكلة ليس في حكم إخراجها نقدا ؛ بل تكمن في الخلاف بين أصحابها هذا يتعصب لرأيه والأخر يتمسك برأيه إلا من رحم ربي.
فعن أَبَي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ» الحديث صحيح أخرجه البخاري (2/ 131) رقم 1526، كتاب الزكاة، بَابُ فَرْضِ صَدَقَةِ الفِطْرِ
فيرى الجمهور إخراجا حبوبا، ويرى الحنفية جواز إخراجها نقدا
وقبل أن نتصور الخلاف في المسألة فأقص لكم قصة واقعية حول هذا الموضوع:
فقد كنت جالسا يوما (السبت الموافق 20 رمضان 1445) مع أحد الشيوخ فجاءه اتصال تليفوني من أحد معارفه يسأله: أن صديقا عزيزا عليه فقيرا مصاب بغسيل كلوي فقررت أن أجمع زكاة الفطر عني وعن أخوتي وأعطيها لها نقودا. فهل تجوز زكاة الفطر نقدا لهذا الصديق المريض؟
فأجاب الشيخ: هذا رأي بعض العلماء، ولكني أُفضل أن تخرجها حبوبا وهذا ما أميل إليه – انتهت إجابة الشيخ.
فإذا بالشيخ يسألني ما رأيك فتصنعت أني لم أسمعه مراعاة للأدب وعدم التنصت، فكرر علي ما حدث ؛ فقلت له يا شيخ أنت تطلب منه أن يخرج زكاة الفطر حبوبا عنه، و عن أخوته لهذا الفقير المريض؛ فهل يعطي هذا المريض المستشفى حبوبا لعلاجه ؟!!! فبُهت ....
وبعد فقد شرعت زكاة الفطرة مراعاة لمصلحة الفقير، للأسباب الآتية:
1- أن إخراج الحبوب أيام النبي – صلى الله عليه وسلم- لعلة أهمية هذه الأصناف والحاجة للطعام في ذلك الوقت، وقد انتفت العلة، وانتشرت الزراعات والأطعمة ؛ فالحاجة للنقود أفيد للفقير مراعاة للمصلحة الفقير .
2- أن الصحابة – رضوان الله عليهم- قد أخرجوها من غير هذه الأصناف مراعاة لصالح الفقير كما جاء في الحديث الصحيح:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ»، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ وَجَاءَتِ السَّمْرَاءُ، قَالَ: «أُرَى مُدًّا مِنْ هَذَا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ» والسمراء هي القمح، الحديث صحيح أخرجه البخاري (2/ 131) رقم 1508، كتاب الزكاة، بَابُ صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ
3- أن التعاملات بالنقود كانت ليست لها أهمية كبرى في تلك الفترة الزمنية، أما في عصرنا الحالي فكل التعاملات الاقتصادية بالنقود.
4- أن هذه الأصناف حجة عليهم؛ لأنهم لا يقولون بغيرها، ويخرجون البقوليات مثل الفول والعدس والفاصوليا و الشاي والشعرية والمكرونة...وبعض الأصناف الأخرى؛ فأقول لهم هذه الأصناف لم يذكرها الحديث فيجيبون أنها لمصلحة الفقير، فأقول لماذا إذن تنكرون أن مصلحة الفقير في النقود ولا تنكرونها في باقي الحبوب؟!!!
5- أن الحديث بدأ بأول الأصناف وهو " صاعا من طعام" ، فلم يحدد نوع الطعام وتركه ليلفت نظرنا أنها لصالح الفقير ، وأخذ العلماء من المصلحة أنها من غالب طعام أهل البلد، ومن مصلحة الفقير في هذه الأيام أخذها نقودا ليشتري بها طعاما أو ملابس لأولاده أو مصاريف علاج أو يدفع مصاريف الدراسة لأولاده.
ويؤيد ذلك :عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ» الحديث صحيح أخرجه أبو داود في سننه (2/ 111) رقم 1609،كتاب الزكاة ، باب زكاة الفطر، وصححه الحاكم 1/ 409
وذكرت الآية صفة الطعام بأنه من أوسط ما تطعمون أهليكم منه { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ }[المائدة من الآية:89].
وإن كانت هذه الآية الكريمة جاءت في كفارة اليمين إلا أننا نأخذ منها صفة الطعام وهو من باب حمل المطلق على المقيد كما يقول الأصوليون؛ فقد قيد الله – عز وجل- الطعام بأنه من أوسط ما نطعم منه أهلنا فنعمل به عند إطلاق الطعام كما في حديث صدقة الفطر.
والحديث ذكر: فأغنوهم عن ذل السؤال في ذلك اليوم ، ومن الذل أن يلبس أولادك ملابسا جديدة والفقير يراها ويتحسر على أولادها.
كما أنك تأكل في يوم العيد أشهى المأكولات و تُقيم العزومات وتُخرج للفقير التمر أو الشعير أو هذه الأصناف له، وكان الفقير يتمنى إخراجها نقودا ليشتري بعض اللحوم ليدخل الفرح والسرور على أولاده.
وأيضا نرى كثيرا من الفقراء يأخذون هذه الحبوب ثم يبيعونها للتجار بثمن زهيد ليحصلوا على النقود لشراء احتياجاتهم هم وأسرهم.
وللحديث بقية بمشيئة الله -عز وجل-.
أرحب بأسئلتكم ومقترحاتكم كتبه
العبد الفقير إلى الله -عز وجل-
د/ ياسر عبد الهادي نصر
تخصص شريعة إسلامية